قلم : عبدالله السليم
تأملت كثيراً في إطلاقاتنا اللفظية فوجدت كثيراً منها عائمة تصلح أن تطلق لأي شخص، وأرى أنها لا تطلق لبعض مستحقيها ، فبدأت أحرث في مؤهلات هذه الإطلاقات فلم أجد شيئاً!
"الفكر" لفظة مورس عليها الكثير من الظلم ، وألصقت بأناس بانوا عنها ،وجردت من أناس هم الأحق بها، ومن طرائف مجتمعاتنا العربية:أن بعض الألفاظ توشح لمن ليس له نصيب ...فتش في نفسك يتجلى لك الكثير منها ، وهذه المشكلة جزء من تقهقرنا الحضاري ، حتى أضحينا دون المؤخرة .
الأصالة نتاج أصيل في حضارتنا الإسلامية ،والتخصص عامل فعال في صحواتنا السابقة ،فمعاذ بن جبل أعلم الصحابة بالحلال والحرام وأشدهم في أمر الله عمر وأرحمهم بالأمة أبوبكر -رضي الله عنهم أجمعين- وإذا انحدرنا في تراثنا وجدنا أئمة الإسلام كل منهم على ثغر في مجاله ؛ولذا فقه الأئمة ذلك المعنى ، وصيغ بأرقى عبارة من إمام دار الهجرة -مالك بن أنس-حين قال:"كلانا على خير" من هذا نؤمن أن لكل ساحة فرسانها ولكل علم أربابه ،وكما قيل:"إنما السيف بضاربه" وساحة الفكر جزء من ساحاتنا النهضوية ، لكن..بعض الأسئلة تحوم في سماء الفكر:
1-هل الفكر علم مستقل أم خليط علوم؟
من راجع الألقاب التي أطلقت على بعض البارزين أحس أن الفكر تخصص مستقل له مبادئ وحدود وتأريخ وأمهات، ومن أمعن النظر في الكتابات الفكرية وجد أنها تعود في أطروحاتها لعلوم أخرى ، فإذا كتب عن الاستدلالات أحال إلى مراجع العقيدة ومباحث أصول الفقه ، وإذا كتب عن الطباع والتعايش أحال إلى علم الاجتماع ، أو يحلل الواقع فيحلق في حوادث التأريخ ليفسر ما يحدث الآن ، والأمثلة في هذا كثيرة لكن السؤال مازال مطروحاً : هل الفكر علم أم خليط علوم ؟ من هذا الاستشكال ندلف إلى السؤال
2 - متى يقال عن شخص أنه" مفكر" ؟
قبل أن نلج في هذا الموضوع نتلمس معنى الفكر وقضاياه ، وإذا رجعنا إلى أرباب اللغة ومؤلفاتهم نجد أن الفكر: إعمال العقل في الشي، فهو متعلق بعملية عقلية تحاول تفسير الواقع وتوجيهه بما لديها من معطيات ، إذن : طريق الفكر وعر عسير يتطلب تراكماً معرفياً وقدرات عقلية لتوظيف هذا التراكم ، وابتدع كل مفكر لنفسه طريقاً لإنشاء الجانب الفكري الذي يرتضيه لمريديه ويوجه إليه ، فبعض القامات الفكرية عكف على التراث العربي خصوصاً الشعري واستنتج منه الدعائم الفكرية التي يظهر للناس بها ، وآخر لزم كتب التأريخ والسير واستنتج منها أهم قضاياه الفكرية التي يكرر طرحها ويعتمد عليها ، وبعضهم أرشد إلى أساليب النقد والاستنتاج ومحاولة كشف خلل المواقف التي تحدث أمامه ، ويبتدع بعضهم تناكح الأفكار ليخرج بفكرة جديدة ، وصنف زعم: أن معرفة كلام الفلاسفة وتعقيداتهم وتقسيم المناطقة للأشياء والتفوه بتلك المصطلحات والتمرس عليها يعطي الشخص بعداً فكرياً ،وطرحاً عميقاً ، ويظن آخر: أن الناقد للظواهر الاجتماعية والحالات السياسية يستحق أن يوشح هذا اللقب... فأي هؤلاء يستحق أن يسمى مفكراً ؟
عبارة الفكر الإسلامي الاصطلاحية ظهرت حين استوى كل فكر على سوقه ، ودعى كل شخص إلى منهجه وأضحى العالم الإسلامي حقول تجارب فكرية أدت إلى مآسي سياسية واجتماعية ودينية ومن أظهر تلك المنعطفات: الحقبة الاشتراكية التي خاضت الصراع لتمثل واجهة العالم الإسلامي وخسرنا أكثر مما ربحنا ، ثم جاءت الحقبة العلمانية اللبرالية لتحاول أن تقود زمام العالم الإسلامي فماتت في رضاعتها -ولله الحمد- حيث أضحت الشعوب أكثر وعياً في هذه المناهج بفضل الله ثم بظهور العمل الإسلامي ولكن يشوبه مايشوبه من نشأة الأفكار وتطبيقها حتى نضجها ، والسمة البارزة في مواجهة المرحلتين-الاشتراكية واللبرالية- هي التوفيق بين المناهج على ضوء الإسلام ، فحينما كانت الحقبة الاشتراكية ظهر من يدعو إلى "اشتراكية الإسلام" والآن نسمع من يردد مبادئ اللبرالية ويحاول تنزيل قواعد الشرع بقوالبها ، وقل أن تجد من ينهج استعلاء الفكر الإسلامي من ينبوعه الأصيل ، لكن أين أصول هذا الينبوع ؟
أتمنى أن تقام ورش عمل من مختصين لكتابة مشروع فكري ومنهج واعٍ للصناعة المفكرين أو يسمى بالتأصيل الفكري أسوة بغيره من التخصصات حيث أن غالب التخصصات تقوم على فكرة التأصيل بإعطاء صغار العلم قبل كبارة حتى يظهر النبوغ لدى الطلبة في كل علم ، وقد حفلت الساحة الدعوية لبعض المبادرات الحسنة في النشوء الفكري ، ولكن يعكر صفوها التشتت أو ضخامة المشروع ، بحيث أن المريد يشيب قبل أن يبلغ شأنه في الفكر ، وقد اطلعت على أحد المشاريع الرائدة في بناء المفكر و شأنه طول المدة التي يصل إلى عشر سنوات. في الختام : أتمنى أن تخرج ورقة عمل"لصناعة المفكر" تقوم جهات ومراكز مختصة أمثال : موقع رؤى فكرية ومركز الفكر المعاصر وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق